منذ أن أُقرّ القانون 44/2017، وُعد اللبنانيون المنتشرون حول العالم بأن صوتهم سيحمل وزنًا حقيقيًا في صناعة القرار. لكن كالعادة، سرعان ما حُوِّل هذا الحق إلى سلعة تُباع في سوق المساومات بين الأحزاب، بدل أن يُترجم إلى ممارسة ديمقراطية شفافة.
القانون خصّص ستة مقاعد للمغتربين، خطوة كان يفترض أن تكرّس شراكتهم في الحياة الوطنية. غير أنّه أُفرغ من مضمونه قبل أن يولد: ففي 2018 سُمح لهم بالتصويت في دوائرهم الأصلية، على أن تُنشأ دائرة خاصة بهم لاحقًا. لكن “لاحقًا” تحوّلت إلى ذريعة مفتوحة لتأجيل التنفيذ. وهكذا بقي النص معلّقًا، في بلد يتقن فنّ قتل القوانين بالتسويف.
وزيرا الداخلية والخارجية ليسا أكثر من منفّذين تقنيين: الأول يضبط اللوائح والفرز، والثاني يشرف على التسجيل عبر السفارات. لكن السلطة السياسية جعلت من الوزارتين أدوات طيّعة في نزاعاتها. الخارجية تُتَّهم بالانحياز في تنظيم التسجيل، والداخلية تُحمَّل مسؤولية “تفصيل النتائج على القياس”. النتيجة إدارة مشوّهة، وناخبون مغتربون يُعاملون كأرقام قابلة للتلاعب، لا كمواطنين كاملي الحقوق.
الأرقام تعكس حجم المفارقة. ففي 2018 سجّل حوالي 82,965 مغتربًا، شارك منهم فعليًا نحو 46,799 أي ما يعادل 56.4%. أما في 2022، فقد تضاعف العدد إلى أكثر من 225 ألفًا، وبلغت نسبة المشاركة نحو 63% أي ما يقارب 142,000 ناخب. ومع ذلك بقيت أصواتهم مدمجة في الدوائر التقليدية بدل أن تُترجم إلى مقاعدهم الخاصة. بل إن نسبة الأصوات الملغاة في بعض الأقلام الخارجية وصلت إلى 6.5%، أي ضعف النسبة في الداخل، ما يعكس خللاً تنظيميًا أو مقصودًا في إدارة العملية.
كل فريق سياسي قرأ أصوات المغتربين بمنظار مصلحته: من رآها رصيدًا إضافيًا في الدوائر الحساسة سعى لإبقائها مرتبطة بلبنان، ومن خشي انقلاب موازين القوى سعى إلى حصرها في ستة مقاعد شكلية. وهكذا ضاع المبدأ الدستوري للمساواة أمام صناديق الاقتراع، وحلّت مكانه زبائنية انتخابية بحتة.
في فرنسا أو ألمانيا، القاعدة واضحة: أي تعديل انتخابي لا يُطبّق إلا في الدورة التالية، منعًا لتشويه النتائج. أما في لبنان، فالقوانين الانتخابية تُفصَّل في اللحظة الأخيرة كبدلة مستعملة على مقاس الزعامات، ما يحوّل الدستور إلى ورقة تفاوض لا إلى عقد وطني.
اقتراع المغتربين ليس قضية تقنية بل يعكس صورة أزمة أعمق: طبقة سياسية لا ترى في الانتشار اللبناني سوى خزّان أموال وتحشيد انتخابي، لا شريكًا حقيقيًا. وما دامت النصوص رهينة المزاج، سيبقى اللبناني المغترب يُستدعى كل أربع سنوات للاختيار بين “اللاشيء” و”البديل المستحيل”. الإصلاح يبدأ بقاعدة واحدة: القانون ليس وجهة نظر، بل التزام، ومن يعبث به يعبث بالوطن بأسره.
المحامي يوسف بهاءالدويهي | أخبار البلد
